8 septembre 2008
1
08
/09
/septembre
/2008
23:21
بوركت يا رمضان!!!
برهان بسيس
من الصعب جدّا أن نجد حالة تناقض وتباعد بين الخطاب والممارسة بمثل ما نجده في حالة تعامل مجتمعاتنا مع شهر رمضان.
حفظ التاريخ للزعيم بورقيبة أنه تجرّأ على عرض تأويل خاص للتعاطي مع شهر رمضان نزّله في سياق ما سماه بمعركة الجهاد الأكبر ضد التخلف والفقر الذي يعطي للمسلم ما أعطته له الشريعة من مسموح وجواز في الجهاد والسفر والمرض، كان بورقيبة حينها جريئا واستفزازيا، مجدفا بعيدا في عرض قناعاته الاجتهادية التي يمكن أن تتفهمها بعض النخب لكنها مرفوضة بالضرورة من قطاع واسع من الشعب.
بغض النظر عن ملابسات وتفاصيل القصة البورقيبية مع كل ما يتعلق بقضايا الهوية والاجتهاد الديني فإن جزءا من الاشكالات التي سكنت هذا العقل البورقيبي لا تزال تملك شرعيتها بالنظر إلى واقع التأويل الاجتماعي السائد لعديد الطقوس الدينية - ومنها صيام رمضان - الذي ما انفك يرسّخ قيما متناقضة مع جوهر الدين ذاته الغني بالقيم السامية.
أصبح الأمر متعلقا بحالة فصام مزمن وشديد مثير للإشمئزاز بين خطاب نظري يحتفي برمضان كشهر لسكينة النفس وقيم العمل والعطاء والتحكم في الشهوة وواقع ممارسة يؤكد أن هذا الشهر هو عبارة عن مهرجان للاستهلاك الجشع واستعراض سلوكات الفضاضة والعنف والتجهّم في الفضاء العام بالاضافة إلى القضاء المبرم على كل ما يتعلق بقيم العمل والجدية والانضباط والمسؤولية والسلوك المدني المختنق بقبضة «اللّهم إنّي صائم».
مواسم الحرب على العمل والانتاج عديدة في تخطيط عاداتنا الاجتماعية الحميدة، مبعث اعتزازنا وفخرنا بذاك المفهوم الهلامي الذي نسمّيه «هويّة» لا شيء في هذه العادات غير ثقافة القعود والخمول وقلّة الذوق والفقر في الانتاج والعطاء والجمال، لا أفهم كيف تملك أمتنا جرأة الحديث عن طموحات النهضة والتقدّم والتطوير بهذا الإرث المتكلّس من الممارسات الاجتماعية المغلفة بقداسة الدين ومهابة الهوية.
رمضان شهر التلفزيون والمليون بيضة ومقاهي الشيشة المكتظة والموظف النائم في مكتبه ومملكة الشعب العبوس، هو بالتأكيد رمضان مختلف عن ذاك الذي تخيّله النبيّ لأمّته.
(المصدر: جريدة الصباح (يومية – تونس) بتاريخ 7 سبتمبر 2008)
برهان بسيس
من الصعب جدّا أن نجد حالة تناقض وتباعد بين الخطاب والممارسة بمثل ما نجده في حالة تعامل مجتمعاتنا مع شهر رمضان.
حفظ التاريخ للزعيم بورقيبة أنه تجرّأ على عرض تأويل خاص للتعاطي مع شهر رمضان نزّله في سياق ما سماه بمعركة الجهاد الأكبر ضد التخلف والفقر الذي يعطي للمسلم ما أعطته له الشريعة من مسموح وجواز في الجهاد والسفر والمرض، كان بورقيبة حينها جريئا واستفزازيا، مجدفا بعيدا في عرض قناعاته الاجتهادية التي يمكن أن تتفهمها بعض النخب لكنها مرفوضة بالضرورة من قطاع واسع من الشعب.
بغض النظر عن ملابسات وتفاصيل القصة البورقيبية مع كل ما يتعلق بقضايا الهوية والاجتهاد الديني فإن جزءا من الاشكالات التي سكنت هذا العقل البورقيبي لا تزال تملك شرعيتها بالنظر إلى واقع التأويل الاجتماعي السائد لعديد الطقوس الدينية - ومنها صيام رمضان - الذي ما انفك يرسّخ قيما متناقضة مع جوهر الدين ذاته الغني بالقيم السامية.
أصبح الأمر متعلقا بحالة فصام مزمن وشديد مثير للإشمئزاز بين خطاب نظري يحتفي برمضان كشهر لسكينة النفس وقيم العمل والعطاء والتحكم في الشهوة وواقع ممارسة يؤكد أن هذا الشهر هو عبارة عن مهرجان للاستهلاك الجشع واستعراض سلوكات الفضاضة والعنف والتجهّم في الفضاء العام بالاضافة إلى القضاء المبرم على كل ما يتعلق بقيم العمل والجدية والانضباط والمسؤولية والسلوك المدني المختنق بقبضة «اللّهم إنّي صائم».
مواسم الحرب على العمل والانتاج عديدة في تخطيط عاداتنا الاجتماعية الحميدة، مبعث اعتزازنا وفخرنا بذاك المفهوم الهلامي الذي نسمّيه «هويّة» لا شيء في هذه العادات غير ثقافة القعود والخمول وقلّة الذوق والفقر في الانتاج والعطاء والجمال، لا أفهم كيف تملك أمتنا جرأة الحديث عن طموحات النهضة والتقدّم والتطوير بهذا الإرث المتكلّس من الممارسات الاجتماعية المغلفة بقداسة الدين ومهابة الهوية.
رمضان شهر التلفزيون والمليون بيضة ومقاهي الشيشة المكتظة والموظف النائم في مكتبه ومملكة الشعب العبوس، هو بالتأكيد رمضان مختلف عن ذاك الذي تخيّله النبيّ لأمّته.
(المصدر: جريدة الصباح (يومية – تونس) بتاريخ 7 سبتمبر 2008)